صمت البيت الأبيض على اليمن: تفويض سعودي أم استبعاد استراتيجي؟”

زيارة ترامب  إلى الخليج، والتي شملت الإمارات وقطر والسعودية، ليست مجرد جولة بروتوكولية، بل انعكاس مباشر لترتيب الأولويات في مشروعه السياسي والاقتصادي بعد عودته إلى الساحة الدولية. لكن اللافت، والمخزي في آن، هو ذلك التجاهل الفج للملف اليمني، رغم أنه محاط جغرافيًا بالسعودية، ومخترق سياسيًا من مختلف اللاعبين الذين تلتقي بهم واشنطن.

ترامب لا يرى في اليمن فرصة، بل عبئًا، مستنقعًا متعدد الأطراف لا يُمكن الخروج منه بصورة رابحة. هو رجل صفقات، لا رجل تسويات دموية طويلة المدى. والملف اليمني ليس مشروعًا استثماريًا، بل حفرة تبتلع كل من يحاول رسم ملامح انتصار فيها. ولذلك، فإن السكوت الأمريكي عن اليمن لا يعني الغياب، بل تفويض المهمة للرياض التي تؤدي دور الحارس الإقليمي، وتدير الأزمة بوجه مكشوف أمام الداخل، بينما تُخفّف عن واشنطن تبعات الدخول في مواجهة مباشرة.

إن نظرة ترامب للمنطقة مشروطة بالربح السياسي والمالي: عقود تسليح، استثمارات، تفاهمات عسكرية، وصفقات أمنية تحمي تدفق الطاقة وتؤمّن ممرات الملاحة. وهذا ما توفره له الإمارات بنفوذها البحري، وقطر بقدرتها على لعب دور الوسيط بين التناقضات، والسعودية بقوتها المالية وموقعها القيادي في ملف الطاقة. أما اليمن، فهو لا يعرض شيئًا سوى جغرافيا مدمرة ومشهد إنساني مثقل بالفضائح الحقوقية، وفساد المنظمات، وسوق مفتوح للفوضى المسلحة. ولذلك، فإن أي تطرق للملف قد يفتح أبوابًا إعلامية محرجة هو في غنى عنها، خصوصًا في هذه المرحلة الانتخابية التي يسعى فيها لإعادة تقديم نفسه كقائد حازم لا يهتم بالشكاوى الأخلاقية، بل بالصفقات الكبرى.

وبينما تُشعل الصواريخ الهشة في مأرب أو صعدة، وتحترق الكهرباء في عدن، وتنهار اللقمة في الحديدة، يتجول زعيم العالم الحر بين عواصم مضاءة، يوقّع على اتفاقات جديدة، يلتقط الصور مع قادة الخليج، دون أن يذكر جملة واحدة عن اليمن. لا لأن الملف غير موجود، بل لأنه تقرر أنه من اختصاص غيره. اليمن اليوم بات في خانة “الملفات المفوّضة”، تمامًا كما تفوَّض الحروب بالوكالة، والضحايا إلى الصمت، والمآسي إلى المجازر الروتينية التي لا تحرّك نشرات الأخبار.

بهذا المعنى، فإن الزيارة تقول أكثر مما تُعلن: اليمن ليس ضمن مشروع ترامب ولا ضمن جدول أولويات أي قوة كبرى، إلا بقدر ما يُقلق الحلفاء في الخليج. وحتى هذا القلق، أصبح قابلاً للتعايش معه طالما أن الأنابيب تسيل، وصفقات الدفاع تُبرم، والأسواق تظل مفتوحة. فهل ما زال أحد يصدق أن لليمن حلفاء، أم أن الكل قد اقتنع أن “الملف اليمني” هو مجرد مساحة جغرافية أُسقِطت من خريطة الطموحات؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *