لوجه الآخر للحرب في اليمن
منذ انقلاب الحوثيين عام 2014، لم تعد الحرب مجرد صراع على الأرض والسلاح، بل فتحت أبواب اقتصاد أسود يزدهر في ظل الفوضى. في قلب هذا الاقتصاد برزت تجارة الكبتاجون والشبو، ليست فقط كمواد محظورة، بل كأداة تمويل مباشرة للحرب ووسيلة للسيطرة على المجتمع وسلاح يفتك بالشباب.
المسار بدأ من مصانع الكبتاجون الضخمة في اللاذقية السورية التي كانت تنتج ملايين الحبوب لتغذية حروب المنطقة. وبعد استهداف هذه المصانع وتشديد الرقابة على شحناتها، تحوّلت الأنظار إلى بيئة أكثر هشاشة مثل اليمن الممزق. ولم يعد الحوثي مجرد نقطة عبور، بل أصبح لاعبًا أساسيًا في التصنيع والتصدير.
أشارت تقارير على موقعي ذا عرب ويكلي وذا ناشونال إنترست إلى وجود ورش لتصنيع الكبتاجون في محافظة المحويت، فيما ذكرت فوربس أن الحوثيين بدأوا مرحلة الإنتاج بعد عام 2023. وأعلنت وزارة الداخلية التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، القبض على لبنانيين وسوريين حاولوا إنشاء مصنع آخر في صنعاء بعد فشلهم في إدخال المعدات عبر عدن. هذه الوقائع تؤكد أن التصنيع بات واقعًا ملموسًا لا مجرد احتمال.
إلى جانب المحويت وصنعاء، ترددت تقارير عن ورش صغيرة بدائية في مناطق مثل ذمار وصعدة، حيث استُخدمت القرى الجبلية النائية بعيدًا عن الرقابة لإنتاج الكبتاجون وحتى الشبو. أما الحديدة فلم تتحول إلى مركز تصنيع بقدر ما صارت بوابة لاستيراد المواد الأولية وتهريب الشحنات إلى الخارج. الصورة النهائية تكشف شبكة مترابطة: مصانع شبه منظمة، ورش بدائية، وموانئ ومعابر تُستخدم كمسارات للتهريب منذ أعوام لتغذية السوق السوداء التي يستفيد منها الحوثيون بصمت.
الحجم يتضح أكثر بالأرقام. الحكومة اليمنية أعلنت ضبط 1.5 مليون حبة كبتاجون على متن شاحنة مبردة كانت متجهة إلى السعودية. في معبر الوديعة ضُبطت 13,750 حبة قادمة من صنعاء، وفي شحنة أخرى 16,000 حبة مرتبطة بجماعات موالية للحوثي. هذه ليست حالات معزولة، بل سلسلة متواصلة تبرهن أن اليمن أصبح محطة إنتاج وتهريب في آن واحد.
إلى جانب الكبتاجون، ظهر الشبو (الميثامفيتامين) ليضاعف حجم الكارثة. ورش صغيرة داخل مناطق الحوثي بدأت بتصنيعه بكميات موجهة للتوزيع الداخلي والتهريب. الشبو أكثر خطورة من الكبتاجون، فهو أسرع في تدمير الجهاز العصبي، ويقود إلى هلاوس واكتئاب وانهيارات نفسية عميقة. دخوله إلى المشهد يعني أن اليمن لم يعد مركزًا لمخدر واحد، بل عقدة إقليمية لعدة مواد تتغذى عليها مافيات إقليمية من حيث الأموال غير المشروعة.
الانعكاسات الاجتماعية والنفسية لهذه التجارة أكثر فتكًا من الأرقام. شباب يواجهون بطالة وضياع تعليم وانعدام أمان، وجدوا في المخدرات مهربًا مؤقتًا، لكن الثمن كان تدميرًا كاملًا لحياتهم وحياة أسرهم. الكبتاجون يخلق يقظة وهمية تقود إلى العنف، وهو ما تم استخدامه أثناء المعارك منذ اندلاع الحرب في اليمن. أما الشبو فيسحق الدماغ، ويدفع المدمن إلى الذهان والانتحار والعنف الأسري. بهذه الطريقة لا تُهدم الأجساد فقط، بل يُفكك نسيج المجتمع، ويُسحق جيل كامل.
في هذه الفوضى جاء القصف الإسرائيلي لموانئ يمنية بذريعة الرد على هجمات حوثية رمزية، لكن النتيجة لم تكن سوى انتهاك جديد لسيادة اليمن، وسقوط أرواح بريئة لم يذكرها الحوثي ضمن بياناته، بل اعتقل من حاول توثيق أماكن الدمار. ومع جرّ البلد لعدوان مباشر من الآلة الإسرائيلية، يطفو على السطح وجه آخر من وجوه الخراب. الحوثيون استغلوا المشهد ليظهروا كضحايا، متجاهلين أنهم حولوا هذه الموانئ إلى أدوات لاقتصاد أسود قائم على تهريب الأسلحة والمخدرات.
ومازال أعداء وتجار الحرب يعرقلون وصول اليمن إلى سلام حقيقي يوقف هذا العبث: انقلاب يمول نفسه من تجارة السموم، ورش ومصانع تنتشر في المحويت وصنعاء وذمار وصعدة، موانئ مثل الحديدة تتحول إلى بوابات تهريب، شباب يُسحقون بين الإدمان والجبهات، وبلد تُنتهك سيادته من الداخل والخارج. ومع فساد ينتشر كالسرطان حتى في المؤسسات المعترف بها دوليًا، يذوب حلم اليمن بدولة مدنية، وتبقى البلاد أسيرة اقتصاد حرب قائم على المساعدات والمال الموازي والأسود