حين يحيى التاريخ ويعود الى اصحابة المتحف المصري الكبير فتح أبوابه

لم يكن افتتاح المتحف المصري الكبير مجرد قص شريط أو استعراض معماري ضخم يضاف إلى سجل الفعاليات الرسمية، بل كان إعلانًا صريحًا عن لحظة مفصلية تعيد مصر إلى مركز الخريطة الحضارية بعد عقود كانت فيها آثارها تجوب متاحف العالم أكثر مما تجوب ذاكرة أصحابها. المتحف لا يقدَّم كمنشأة سياحية فحسب، بل كبيان ثقافي واسع المعنى هذا هو البيت الذي انتظرته مصر طويلًا كي تعيد إليه ما خرج منها قسرًا عبر القرون، وما بقي منها حبيس مخازن ومتاحف لا يراها إلا نخبة محدودة من الزائرين.
لقد احتاج الأمر عشرين عامًا من الإنشاء والتأجيل والمشاريع المتعثرة، ليظهر المتحف أخيرًا بهذا الشكل الذي يليق بتاريخ يمتد لسبعة آلاف عام. ليس مجرد مبنى قرب الأهرامات، بل محاولة لاسترداد السيادة على الذاكرة. منذ اللحظة التي بدأت فيها التوابيت والتماثيل والبرديات تغادر مخازن الظل نحو صالات العرض الجديدة، بدا وكأن مصر تعيد ترتيب سرديتها التاريخية على أرضها لا في أروقة متاحف الآخرين.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه بصوت أعلى من صدى الافتتاح هو: هل يكفي بناء المتحف كي تعود الآثار المفقودة إلى الوطن؟ فالعالم امتلأ بقصص القطع التي خرجت في زمن الاحتلال، أو عبر صفقات غامضة، أو حتى بحجة “الحفاظ عليها من الزمن”. اليوم، ومع وجود متحف يليق بالتراث المصري، يمكن للحديث عن استعادة القطع أن يتحول من مطالبة عاطفية إلى خطاب قانوني موثَّق، مدعوم بمنشأة حديثة تقول بوضوح: ليست هناك حجة بأن مصر غير قادرة على حفظ آثارها.
غير أن القيمة الحقيقية للمتحف لا تتحدد فقط بما سيعلَّق على الجدران أو يوضع في القاعات، بل بما سيحدث بعد أن يغادر الرؤساء منصة الافتتاح، وتنطفئ الكاميرات وتُغلق بوابة اليوم الأول. فالتاريخ لا يُستعاد بعودة القطع فحسب، بل بأن يكون المتحف منبرًا للتعليم، لإنتاج المعرفة، لتغيير نظرة الجيل الجديد إلى حضارته، لا باعتبارها ماضياً محفوظاً في زجاج بل باعتبارها حقاً ثقافياً حيّاً.
هناك من يرى أن المتحف سيخدم السياحة قبل الثقافة، وأنه واجهة سياسية أكثر منه مشروعًا معرفيًا. وقد يكون في هذا جزء من الحقيقة. لكن لا شيء يمنع أن يبدأ المشروع بوصفه رمزًا رسميًا وينتهي مؤسسة وطنية حقيقية، شرط ألا يُعامل كما عوملت كثير من منجزات الدولة حين تحوّلت إلى بنايات فارغة أو معالم لا يزورها المواطنون إلا في بطاقات البريد.
المتحف المصري الكبير ليس حدثاً عادياً، وليس مشروعاً محايداً. إنه مساحة اختبار هل تستطيع دولة أن تستعيد آثارها كما تستعيد ثقتها بنفسها؟ وهل يمكن أن تُبنى العلاقة بين المصريين وتراثهم من جديد، بعيدًا عن فكرة أن آثارهم موجودة فقط في الطوابع المدرسية وفي أفلام الوثائقيات الأجنبية؟ انها بلاد السلام والاديان والحضارات والمتحف نقطة البداية .


