المال الذي لا يعود لاصحابه صنعاء بين الودائع واستمرار الازمة والحرب
ماتزال البنوك في صنعاء تفتح أبوابها كل صباح، لكن ما بداخلها لم يعد بنوكاً بالمعنى المعروف. خلف النوافذ الزجاجية وواجهات المؤسسات، هناك مدخرات محبوسةخاصة ودائع البنك المركزي في صنعاء وبعض البنوك التي شبه متواجدة وأحلام تتآكل بصمت. كثيرون ما زالوا يحتفظون بوصولاتهم البنكية كدليل على حقّ ضائع، مثل تذكرة سفر إلى بلد أُلغي مطاره واثرياء وصلوا تحت خط الفقر
قبل أعوام، حين صدر القانون المصرفي الجديد، قيل للناس إن الهدف “تنظيم السوق” و“حماية أموال المودعين”. لكن الحقيقة كانت شيئاً آخر. مع الوقت، حوّل القانون إلى قيدوالوديعة إلى ورقة بلا قيمة. البنوك توقفت عن السداد، والمودعون صاروا طوابير صامتة أمام الأبواب المغلقة وحتى حين يتجهون بمظاهرات واعتصامات يتم قمعهم ، يسألون أسئلة لا يملك أحد شجاعة الإجابة عنها.
في الوقت نفسه، كانت الإيرادات الحكومية تتدفق من الضرائب والجمارك ورسوم الوقود، لكنها لم تذهب إلى حيث يفترض أن تذهب. جزء كبير منها دخل في منظومة معقدة تُسمّى “المجهود الحربي”. صارت أموال الناس تُدار لخدمة معارك لا تنتهي، وكل أزمة جديدة تمنح السلطة مبرراً جديداً لتشديد قبضتها على المال والسوق معاً.
حين تتحدث عن “التسوية السياسية” في صنعاء، يضحك الناس بمرارة. التسوية تعني، ببساطة، أن تعود الأموال إلى النظام، وأن يُعاد فتح البنوك، وأن تخضع الإيرادات لرقابة لا تريدها السلطة. ولهذا، يُفضَّل إبقاء الحرب مشتعلة، ولو ناراً باردة. الأزمة الدائمة صارت أكثر أماناً من السلام نفسه، لأنها تبرر السيطرة وتؤجل الحساب.
في الشارع، الناس لا يتحدثون بلغة الاقتصاد، لكنهم يفهمون كل شيء. صاحب الدكان يعرف أن بضاعته أغلى لأن الريال فقد قيمته. الموظف يعرف أن راتبه مؤجل لأن الإيرادات لا تذهب إلى خزينة الدولة. حتى الطفل الذي يبيع المناديل عند الإشارة يعرف أن والده كان يملك حساباً في بنك لم يعد بنكاً.
في الاجتماعات المغلقة والبيانات الرسمية، يُتحدث كثيراً عن “الاستقرار المالي” و“استعادة الثقة المصرفية”. كلمات أنيقة لم تعد تقنع أحداً.فالمال الذي يموّل الحرب لا يمكن أن يبني سلاماً، والودائع التي تُحتجز باسم الوطن لا تعود إلا حين يصبح الوطن أكبر من الحرب.
الناس هناك لا يطالبون بالمستحيل. يريدون فقط أن تعود أموالهم، أن تُصرف الرواتب بانتظام، وأن يعيشوا في بلد لا يُدار اقتصاده بالبندقية. لكن الطريق إلى ذلك لا يمرّ عبر الأرقام، بل عبر قرار سياسي لم يجرؤ أحد بعد على اتخاذهحتى اللحظة.



